بلادٌ نُسِيَت في حقائب المهاجرين | شعر

عدسة: مالورني (Getty).

 

دُفِنَ صوتي الخفيض

ضحكتي الساخرة من العالم

بلاغتي المُجْهَدَة من الحَفْر في اللغة

صار كلّ سنتمترٍ أمشي فوقه قبرًا.

 

*

 

أَضِئ قلبي مرّةً أيها الجنديّ

مرّةً واحدة؛

لأنطق.

 

*

 

كان صمتي موسميًّا

عند اشتداد الفجر مثلًا

أو وقت امتزاج الملحمة بالأخرى

لكنّ بحرًا فيَّ كان يقول:

عبثٌ مؤقّت،

وسيتسلّل الغبار إلى ما وراء حدود الحصار.

 

*

 

بداوتي أنيقة

تُلْبِسُ الدم الفائر قصّة يسوعٍ آخرَ،

وتفكّ إزارها كأنّها تستعدّ لحميميّة القاصّ المفقود

تعبّ الليل كالزنجبيل،

وتحتفي باليُتْم.

 

*

 

كنتُ دائمًا حَذِرًا من الأبد

خائفًا من يدٍ تغرق في رماد الخوابي

لكنّي الآن منبسطٌ

وثرثار

هكذا تفتح المدافع قلبها لشاعرٍ غريب

 

*

 

لي أحزانٌ كثيرةٌ

أعمقها نسياني شطيرتي في الفرن واحتراقها

أقمتُ مأتمًا يومها،

كأنّ بلادًا نُسِيَتْ في حقائب المهاجرين

 

*

 

خاصرةٌ جديدةٌ

خنجرٌ جديد

بروتوس جديد

والطعن هو القديم

القديم هو الطعن

أيّها العالم

صار المطعونون ثلاثةً

 

*

 

الحرب نصف الكأس الممتلئ

الكأس مستريحٌ على الإصبع ومرتبك

صاحب الإصبع يركض،

والشمس تهامس البحر

النهار يُهْزَم

وقلبي طافحٌ بكينونة الماء المندلق من الكأس

 

*

 

علاقتنا بالنجاة غريبةٌ

كظهر السكّين بعنق الطائر

يُهَيَّأ لنا نصلٌ،

وبعد عمرٍ فاشلٍ

نلمس زجاج المحطّات المنفيّة

 

*

 

قبل أن تَلِدَ الحمامة

اكْتُشِفَ الخطأ،

ولم تضعْ بيضًا

تركتْ توقيعًا يقول:

لكلّ قتيلٍ أجنحة

 

*

 

ليلٌ واحدٌ كلّ الليالي

النهارات نهارٌ واحدٌ

الأوقات كذلك

لكنّ اسمي جماعةٌ

فرّقتها مَظْلَمَةُ الخيام

 

*

 

حملتُ حبري على كتفي

لأرسم التجربة وخلاصًا تأخّر

لكنّي اكتشفتُ انسكاب الحبر على جسدي

بفعل الطريق ورجفة الخطوات

صارت التجربة أضغاث أحلام

لمَنْ أراد الرسم

 

*

 

كان تاريخي الصغير دزّينة حروبٍ؛

أردتُها حربًا واحدةً تصنع قصيدة

أستجذبُ بها حرارة المصفّقين

تجلّيهم الحزين ووقوفهم عن الكراسي

اكتشفتُ لاحقًا أنّ القصّة أكبر،

وأنّ إنسانًا صنعته حروبٌ كثيرة

مذابحُ أكثر ومشنقةٌ

 

*

 

دمٌ خالصٌ هذه المرّة

غير مختلطٍ ببارود الصواريخ

هو هذا الّذي يسقط من عقول مَنْ لم تُصِبْهُمُ الغارات،

وهم يدركون بأبصارهم ما بعد التفجير

من حيّزٍ معمّرٍ صار حسرةً

وحسرةٍ صارت حيّزًا معمّرًا

 

*

 

كلّ حكايات الحرب الشهيدة

لا زالت يقظةً على سرير الحياة

تكمل سيرها البطيء نحو الخلود

إلّا نحن الّذين لم نَمُتْ؛

انتهينا منذ أوّل بابٍ فتحتْه يد أكتوبر الفظّة

أصبحتْ عظامنا لقمةً بفم تاريخٍ كان هنا

ربّما؛ كان هنا

وربّما كنّا

 

*

 

تُقْضى ديون فجرٍ تأخّر

يسقط طفلٌ كورقةٍ من تينة الحياة

ويسقط معه مطرٌ من قلب امرأةٍ/ ساقية

تلك قصّة خريفنا المذبوح ذبحةً

تمتدّ من النيل إلى الفرات

 

*

 

جئنا من الصرخة

عشنا ألف سنةٍ بداخلها،

ولم نسأل من أيّ حنجرةٍ اندلقنا

فجأةً؛ سكت كلّ شيءٍ

ولم يَعُدْ لصارخٍ حنجرة

قيل في الأثر أنّ ملحمةً ذوّبتْ آثارنا

 


 

هاشم شلولة

 

 

 

كاتب وشاعر فلسطينيّ يقيم في قطاع غزّة. له ثلاث مجموعات شعريّة: «برقيّات لآلة فاكس معطّلة» (دار الكلمة)، «سيأكل الذئب مَنْ ينتبه» (دار رواشن، 2021)، و«ماذا لو عرفوا أنّنا غرباء» (دار رواشن).